سورة القصص (028)
الدرس (9)
تفسير الآيات: (51 ـ 57)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق
حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس التاسع من سورة القصص ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
معنى : وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
1 – معنى : وَصَّلْنَا :
( وصَّلنا ) فعلٌ مُضَعَّف ، والتضعيف يفيد المبالغة ، أيْ أنَّ القرآن وصل سورةً بعد سورة ، وآيةً بعد آية ، ومثلاً بعد خَبَر ، ووعداً بعد وعيد ، وبشارةً بعد إنذار ، ومشهداً بعد مشهد :
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾
2 – معنى : وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ :
أي أن الله سبحانه وتعالى رحمةً بعباده وحرصاً عليهم أبلغهم الحقيقة بطريقةٍ أو بأخرى ، بشكلٍ مستمر ، وفي كل عصرٍ ومصر :
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
2 – معنى : التذكُّر :
والتذكُّر هنا يعني أن الإنسان له فطرةٌ تتناسب تماماً مع الإيمان بالله عزَّ وجل ، وما عليه إذا طمست فطرته إلا أن يتذكَّر .
إنّ الإنسان مكلَّف بحمل الأمانة ، والأمانة نفسه التي بين جنبيك .
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
(سورة الشمس)
ومقوّماتها : الكون ، والعقل ، والفطرة ، والشهوة ، والاختيار ، والشرع ، والحرية ، هذه مقوماتها ، وفضلاً عن مقوماتها فالله سبحانه وتعالى ذكَّر عباده في كل حين ليذكِّرَهُم بهذه المهمة التي جاءوا إلى الدنيا من أجلها :
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾
(القصص)
معنى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ
1 – هناك من أهل الكتاب مَن آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام :
دائماً هناك حجةٌ قائمةٌ على العباد ، فأهل الكتاب مثلاً حينما رَدُّوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم ، وحينما كفروا به فإن هناك فئة منهم آمنت ، وأسلمت ، وحسُن إسلامها ، وكانوا من كبار أصحاب النبي
عليه الصلاة والسلام ، معنى ذلك أن الإنسان مخَيَّر ، هؤلاء فكَّروا ، وعقلوا ، واستسلموا ، وآمنوا ، وجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾
من قبلِ القرآن آتيناهم التوراة والإنجيل :
﴿هُمْ بِهِ﴾
أيْ بالقرآن ..
﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾
لأنه من عند الله عزّ وجل :
﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾
(سورة البقرة : آية 285)
مادامت المشكاةُ واحدة فالدعوة واحدة :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
(سورةالأنبياء)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
(سورة البقرة)
الله واحد ، ورسالاته ذات مضمونٍ واحد ، ولكنَّها تختلف اختلافا في التفصيلات بحسب تطوِّرِ المجتمعات ، ولكن :
﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾
(سورة البقرة : آية 285)
هؤلاء أهل الكتاب حينما أخبرهم ربُّهم في كتبهم أنه سيأتي من بعدِ سيدنا عيسى رسولٌ اسمه أحمد ، وجاءت بعض صفاته ، وانطبقت هذه الصفات على النبي عليه الصلاة والسلام آمنوا به ، وإلا فإذا تمَسَّك
الإنسان بالقديم ، وقد جاء الجديد ، فهذا التمسُّك يدلُّ على ضيق أُفقه ، وتعصبه الأعمى ، أنت مع الحق لا مع زيدٍ أو عبيد :
موقف أهل الكتاب المؤمنين من القرآن :
﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾
القرآن ..
﴿قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾
أي إذا كان الإنسان مستسلماً إلى الواحد الدَيَّان فإنه يؤمن بالحق من أي مصدر ، ومع أي إنسان ، أما إذا اتخذ الحقَّ الذي كان عليه إطاراً ، وهو كما هو على شهواته عندئذِ يأتي التعصُّب والانحياز ، و إذا كان
الإنسان مؤمناً حقيقةً فإن هذا الإيمان يدعوه إلى الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ، أما إذا اتخذ دينه لكسب الدنيا ، أو اتخذه ليعلوَ بين الناس ، عندئذِ لا يفرِّط بهذه المرتبة التي بلغها حفاظاً على مصالحه ، إذاً اختلف
الأمر :
﴿أُولَئِكَ﴾
من خصائص مَنْ أسلم من أهل الكتاب : يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ
هؤلاء أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ..
﴿يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾
مرةً لأنهم آمنوا بسيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، ومرةً لأنهم آمنوا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام :
﴿يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾
أي أن الإنسان حينما يدع دينه لدينٍ جاءه من بعد دينه من عند الله عزّ وجل فهذا شيءٌ يحتاج إلى جهد ، وإلى تَحَمُّل ، فلذلك هؤلاء أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام :
﴿يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾
يؤتون أجْرهم مرتين لإيمانهم بنبِيِّهم سيدنا عيسى ، ولإيمانهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾
مِنْ صفات من أسلم من أهل الكتاب :
1 – يَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
من صفاتهم أنهم يدرؤون ، ومعنى يدرؤون أي يدفعون ، يدفعون الذنب بالتوبة ، يدفعون الطمع بالقناعة ، يدفعون المعصية بالطاعة ، يدفعون السيِّئة بالحسنة :
2 – الإعراضُ عن اللغو :
﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾
(القصص : آية 55)
يقول ربنا سبحانه وتعالى :
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾
(سورة المؤمنون)
اللغو هو الكلام الفارغ ، الكلام العابث ، الكلام غير المُجدي ، الكلام عن الدنيا ، الكلام عن سفاسف الأمور ..
إيّاكم واللغو :
عن سهل بن سعدعن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إِنّ اللهَ يُحِبّ مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا )) .
[الجامع الصغير بسند صحيح]
هذا الكلام الهراء من شأن المؤمن أنْ يعرض عنه والآية واضحة :
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾
(سورة المؤمنون )
وبعضهم قال : اللغو ما سوى الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ )) .
[متفق عليه]
كل شيء ما خلا الله باطل ، أي أن كل شيءٍ ما خلا الله ينتهي عند الموت ، تحدَّثْ عن الأموال ما شئت ، هذا الحديث جدواه ما دُمْت حياً ، فإذا جاء ملك الموت انتهى الموضوع ، تحدث عن الأبنية وعن
البيوت الفخمة ، تحدث عن التُحَف ، تحدث عن الرحلات ، تحدث عن أي موضوع ، ولكن هذه الموضوعات محدودة ، وتنتهي بالموت ، لكنك إذا تحدثت عن الله عزّ وجل ، وزدتَ به معرفةً وله طاعةً ، وانصعت
لأوامره ، وانتهيت عما عنه نهى ، فهذا الشيء يبقى أثره بعد الموت ، عندنا قاعدة : اجعل الموت حداً فاصلاً ، فأيّ نشاطٍ ، أي حديثٍ ، أي جهدٍ تبذله ، أي موضوعٍ تعالجه ، أي قضيةٍ تهتم لها ، أية مشكلةٍ تبحث
فيها ، إذا كان هذا الموضوع ، أو تلك المشكلة ، أو هذا الأمر ، أو هذا الاهتمام يتَّصل بما بعد الموت فهذا عملٌ مجدٍ ، أما إذا كان ينتهي بالموت فهذا جهدٌ ضائع ، لذلك قال الله عزّ وجل :
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾
(سورة الكهف : آية 46)
حينما وُصِف الشيء الآخر بأنه باقٍ وُصِفَ الأوَّل بأنه فانٍ ، هذا اسمه في علم الأصول المعنى المخالف :
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ ﴾
هذه الواو حرف عطف ، والعطف يقتضي المغايرة ، هذا شيءٌ آخر ، هذا باقٍ إذاً هذا فانٍ :
﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
أن تسبح الله ، وأن توحِّده ، وأن تحمده ، وأن تطيعه ، وأن تعرفه ، وأن تسعى إليه ، هذا شيءٌ باقٍ ، أما المال والبنون فهو زينة الحياة الدنيا ، وهي فانية ، إذاً أنت معك الآن مقياس ، الحركة ، النشاط ، الجهد ،
التفكير ، الانشغال ، الاهتمام في موضوعٍ دنيوي خسارة ، وفي موضوعٍ أُخروي ربح .
مثلاً : أنت تعلم علم اليقين أن هذه المئة ليرة قد تنفقها إنفاقاً استهلاكياً ، وقد تستثمرها ، أو الألف ، أو المئة ألف ، المبلغ إذا خرج منك إما أن يخرج استهلاكاً ، وإما أن يخرج استثماراً ، فإذا دفعت مبلغاً إلى جهةٍ
ناجحةٍ في عملها فلا تشعر أنك قد خسرته ، لأنه سيعود عليك أرباحاً كثيرة ، إذاً دائماً نشاطك ، تفكيرك ، ذكاؤك ، معلوماتك ، مطالعتك ، لقاءاتك ، نزهاتك ، حركاتك ، سكناتك اجعلها استثماراً ، ولا تجعلها
استهلاكاً ، لأنَّك في الحياة الدنيا في وقتٍ محدود ، كلما انقضى منه بضعٌ انقضى بضعٌ منك ، لأنك وقت ، والإنسان عامة بضعة أيام ، كلما انقضى منه يومٌ انقضى بضعٌ منه .
كلما دارت عقارب الساعة يُستهلَك الإنسانُ ، لأن له نهاية ثابتة ، والأجل ثابت ، إذاً الحركة نحو الأجل مستمرَّة ، ومضيُّ الوقت فيه استهلاكٌ لذاتك ، فهذا الوقت إما أن تستثمره ، وإما أن تستهلكه ، اجلس مع
صديقٍ ، وتحدَّث عن أي شيء من دون أن تذكر الله عزّ وجل ، هذا استهلاك ، وتضييعٌ للوقت ، نعم إنه استهلاكٌ للوقت في عملٍ غير مُجدٍ ، هذا من سفاسف الأمور ، أما التعاون مع أخيك على البرِّ والتقوى ، على
أن تزداد معرفةً بالله ، على أن تعمل عملاً صالحاً يرضيه ، على أن تتصل به ، على أن تدعو إليه ، على أن تأمر بالمعروف ، وأن تنهى عن المنكر ، أن تفهم كلام الله ، أن تفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أن
تفهم أسرار الشريعة
فهذا إنفاق للوقت في الخير ، وكذا أيّ نشاطٍ له أثرٌ بعد الموت حاول أن تبقى فيه :
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
(القصص)
حركةُ الإنسان أساسُها فلسفة واعتقاد :
فالحقيقة أنك لا تجد إنساناً ليس له فلسفة في الحياة ، حتى الجاهل حركته تنطلق من فلسفة ، فالآن العامي يقول لك : " غُب على قدر ما تقدر" ، فهذه فلسفة ، فهو يرى أن الدنيا هي كل شيء ، فعليك أن
تستمتع بها إلى أقصى شيء ، هذه فلسفة ، لا تجد إنساناً إلا ويتحرَّك من فلسفة ، أو من تصور بشكل أَدَقّ ، أو من فكرة ، فإذا جاء هذا التصور مخالفاً للواقع كانت الخسارة والضلال .
إنّ الإنسان المؤمن هو إنسان جاءه من الله خطاب ، هذا الخطاب فيه كلُّ شيء ، فبدل أن يتوهَّم ، ويتصوَّر تصوراتٍ خاطئة ، بدل أن يعتقد اعتقاد غير صحيح ، اعتقاداً زائغاً ، فهو يتصور الحقيقة لأنه في حيّز الخطاب .
الإنسان يتحرَّك الحركة اليومية أساسها الاعتقاد ، أساسها التصوّر ، أساسها الفلسفة ، فالبطولة أن تجعل تصوراتك وأفكارك ومعتقداتك وفق ما جاءك من الله عزَّ وجل ، هذا هو الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه ، إنه حقٌ صرف ، فإذا جاءت تصوراتك وفق ما في هذا القرآن فأنت من السُعَداء ، لأنك تنطلق من العلم ، ما العلم ؟ هو علاقةٌ ثابتة بين شيئين مقطوعٌ بصحتها ، يؤَكِّدُها الواقع ، وعليها دليل ، فينبغي
قبل أن تتحرك ، قبل أن تقف مواقف معينة ، أن تعطي قبل أن تأخذ ، قبل أن تلتقي مع زيد أو عبيد ، قبل أن تذهب مع هؤلاء في نزهتهم ، قبل أن تضرب ، قبل أن تطلِّق ، قبل أن توافق ، قبل أن ترفض ، قبل أن
تتحرك ، هل تتحرك وفق الصواب ووفق تصور صحيح ؟ فهنا المشكلة ، لذلك أعدى أعداء الإنسان هو الجهل ، لأن الجهل سينتج عنه تحَرُّك مغلوط ، وإذا اعتقد الإنسان أن الحياة محدودة ، وعليه أن يستمتع بها إلى
أقصى درجة ، فهذا كلام غير صحيح ، هذه الحياة الدنيا زائلة ، وبعدها حياة أبدية ، فما موقف هذا الإنسان الجاهل حينما يأتيه ملك الموت ؟ إنه يقول :
﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
(سورة الفجر)
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا﴾
(سورة المؤمنون : آية 100)
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾
(سورة المؤمنون)
فالبطولة كل البطولة أن تعمل عملاً لا تندم عليه ، والعبرة من يضحك آخر الأمر ، هناك من يضحك أول الأمر ثمَّ يبكي .
(( ألاَ يَا رُبّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألاَ يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ... )) .
[الجامع الصغير عن أبي البحير بسند فيه مقال]
فنحن نريد المرحلة الأخيرة ، نريد الحياة الأبدية ؛ إنَّ الحياة الأبدية هي التي يعوَّل عليها ، لذلك : من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً .
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾
( سورة القصص : آية 55 )
هناك لقاءات فارغة ، جلسة مضمونها سخيف ، غيبة ونميمة ، وفيها مخالفات ، وفيها معاصٍ ، هذه السهرة فيها غيبةٌ ونميمة ، فيها حديث عن الدنيا ، هذا لغو ، أعرض عن اللغو ، أعرض عنه حديثاً ، أعرض عنه
لقاءً ، أعرض عنه نزهةً ، أعرض عنه اجتماعاً ، أعرض عن كل شيءٍ لا قيمة له .
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾
(سورة القصص : آية 55)
3 – لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
فالمؤمن له ترتيب خاص ، والمؤمن الصادق الصافي المُخْلص لو جلس مع أهل الدنيا يشعر بالبَوْن الشاسع بينه وبينهم ، لا كبراً ، ولكن شعوراً بالغُربة ، هو له مستوى آخر ، هو في واد ، والناس في وادٍ آخر ، هو
يسعى لمعرفة الله ولمرضاته وللتقرُّب إليه ، ويسعى في تهذيب نفسه وتزكيتها ، والعمل على سموِّها ، والناس يسعون إلى شهواتهم وملذَّاتهم من أي طريق ، بحقٍ أو بباطل ، لذلك من الصعب بمكان أن ينسجم مؤمنٌ مع غير
مؤمن ، فإذا حصل انسجام فالإيمان مشكوك فيه ، مستحيل لمؤمن صادق صافٍ أن يقيم علاقة حميمة مع إنسان كافر ، البون شاسع في القيم والمثُل والمعتقدات والتصوّرات ، وطريقة الحديث ، وطريقة التعامل ،
والانغماس في الملذات :
4 – سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾
(سورة القصص)
﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾
(سورة القصص : آية 55)
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
(سورة الكافرون)
لأن ربنا عزَّ وجل قال :
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
(سورة الكهف)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
(سورة التوبة)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾
(سورة الممتحنة)
إذا فعلت هذا فأنت منهم :
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
(سورة المائدة : آية 51)
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾
(سورة آل عمران : آية 28)
يعني أنه لم يأخذ شيئاً .
من واقع حياتنا مثلاً : إنسان مثقَّف ثقافة عالية جداً ، أي أنه غارق في العلم ، وفي مطالعة الكتب ، وفي البحث العلمي ، وفي التأليف ، فهل من الممكن أن يقيم خمسة أيام مع إنسان لا همَّ له إلا بطنه ، وإلا
الحديث على الناس ، والغيبة ، والنميمة ، والمزاح الرخيص ، فهل من الممكن أن ينسجم هذان وأمثالهما ، وأن يجتمعوا ، أو يلتقوا ، أو يتفاهموا ، ويتعاطفوا ؟ هذا مستحيل ، لذلك من صفات المؤمن أنه يشعر
ببعدٍ شديدٍ عن الأشخاص التافهين ، وبهوةٍ سخيفة فاصلة بينهم .
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾
(سورة القصص)
معنى السلام الوارد في هذه الآية :
قال العلماء : ليس هذا سلام بمعناه المعروف ، هذا اسمه في القرآن سلامُ تركٍ ، أي سلامٌ عليكم دعونا وشأننا ، لكم دينكم ولنا ديننا ، لكم مذهبكم ولنا مذهبنا ، لكم اهتماماتكم ، ولنا اهتماماتنا .
﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾
لا نبتغي أن نكون معهم ، ولا أن نجلس معهم ، ولا أن نلتقي معهم ، ليس من أخلاقنا هذا ، وتأتي تسلية الله عزَّ وجل لهذا النبي العظيم :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾
(سورة القصص : آية 56)
مبدأُ الاختيار كما جاء في القرآن :
1 – الإنسان مخيَّرٌ :
إن الإنسان مخيَّر ، وهذا الاختيار صريح في قوله تعالى :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
(سورة القصص)
أي أن الله عزَّ وجل يهدي من يشاء ، بمعنى أن الإنسان إذا سار في الطريق التي رسمها الله عزَّ وجل فعندئذٍ يهديه الله سبحانه وتعالى ، والله عزَّ وجل لا يهدي القوم الفاسقين ، ولا يهدي القوم الظالمين ، ولا يهدي
القوم الكافرين ، ولا يهدي من هو مسرفٌ كذَّاب ، ولا يهدي كيد الخائنين ، فربنا عزَّ وجل له ترتيب ، يهدي الصادقين ، يهدي المنيبين ، يهدي التائبين ، يهدي المتطهِّرين ، يهدي المحبِّين ، ولا يهدي إلا من سلك
الطريق التي رسمها الله عزَّ وجل للهدى ، أما أن يستطيع النبي عليه الصلاة والسلام إحداث الهُدى في نفس الإنسان هذا ليس من شأن البشر ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يبيِّن الطريق ، وتبيان الطريق شيء ،
وإحداث الهدى شيءٌ آخر .
فأنت كأبٍ بكل وسائل إقناعك ، بكل منطقك السليم ، بكل قوة شخصيتك ، بكلِّ ما عندك من مغريات ، بكل ما عندك من عقوبات ، توَظِّفها جميعاً لإقناع ابنك أن يدرس ، أما أن تعطيه كأس ماءٍ يُصبح
بعدها عالماً بالفيزياء فهذا مستحيل ، لأن عبء الدراسة على الابن ، فيجب أن يجلس مع الكتاب ، وأن يدرس ، وأن يفهم ، وأن يحلل ، وأن يناقش ، وأن يبوِّب ، هذا العبء على الابن ، أما الأب فعليه أن يُقْنعه بأن
يدرس ، فتارةً يُغْريه ، وتارة يحذره ، وتارة يقنعه ، ويحبب له الدراسة ، فالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، وكلُّ من جاء بعده من الدعاة لا يستطيع أن يحدث الهدى في نفس الإنسان ، ولكنه يستطيع أن يبيِّن ، وأن
يحمل هذا الإنسان على أن يسلك طريق الهدى فقط ، لأن مهمته أن يُقنع الناس بأن يسلكوا طريق الهُدى ، إذاً : الداعي إلى الله عزَّ وجل تنتهي مهمَّته عند هذا ، عند الإقناع ، أما الحركة فهي من قِبَل الإنسان بالذات ،
هذا معنى قوله تعالى :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾
2 – معنى المشيئة في هذه الآية :
من شاء الهداية ، وسلك طريقها ، واتبع ما أمر الله به عندئذٍ يتولى الله هدايته ، إذاً من شأن الله عزَّ وجل إحداث الهدى في قلب الإنسان ، لكن الله سبحانه وتعالى لا يُحدث الهدى في قلب الإنسان إلا إذا طلب
الإنسان الهدى ، ودفع ثمنه ، وكلُّ مسلمٍ على وجه الأرض يقول : اللهم اهدنا فيمن هديت ، الدعاء سهل ، لكن لا يدفع الثمن ، ولسانه يدعو الله عزَّ وجل بالهدى ، ولكنّ فعله لا يؤكِّد مقولة لسانه .
إذا دخل واحد منا إلى محل سجاد ، واختار سجادة ثمنها مئتا ألف ، لو انتقاها ، وقال : هذه أحبّها ، خير إن شاء الله ، فأين الثمن ؟ هل يكفي أن تشير إلى هذه القطعة كي يُعطيك إيَّاها صاحب المحل ؟ هل يكفي
أن تختارها بذوقك الرفيع ؟ لا .. أين الثمن ؟ ألا إن سلعة الله غالية ، هنا المشكلة ، أكثر المسلمين يتمنون الهدى ، يا رب اهدنا ، خير إن شاء الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : ] يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [ ، وَقَالَ : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [ ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟ )) .
(مسلم)
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
(سورة الأنفال : آية 72)
إذا وقفتَ موقفاً عملياً فأمرك كلامٌ في كلام ، يقول لك : يا أخي ، أنا آمنت بالله ، فماذا فعلت ؟ ماذا أضفت ؟ الله عزَّ وجل موجود ، آمنت به أم لم تؤمن ، اعترفت به أم لم تعترف ، ومن أنت ؟ الإيمان مرحلة
لا بدَّ منها ، لكن لا تكفي إذا وقفنا عندها ، في كتاب الله عزَّ وجل أكثر من مئتي آية تقول :
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
(سورة البروج : آية 11)
إنها تربط الإيمان بالعمل الصالح .
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾
(سورة الكهف : آية 110)
﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
(سورة فصلت : آية 30)
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾
(سورة فصلت : آية 33)
لا بد من الإيمان والعمل الصالح :
ليس في القرآن كُلِّه إشارةٌ إلى إيمانٍ بلا عمل ، ما قيمة هذا الإيمان ؟ يقول لك : أنا أعتقد أن هذه المروحة تدور ، خير إن شاء الله ، وإذا اعتقدت فماذا أضفت ؟ فهي تدور ، اعتقدتَ أم لم تعتقد ، وماذا أضفت
إذا اعتقدتَّ أنها هي تدور ، وهي فعلاً تدور ؟ إذا آمنت بالله عزَّ وجل ، ولم تفعل شيئاً ، فلا أنت ما أطعته ، ولا بذلت من أجله ، ولا تقرَّبت إليه ، ولا غَضَضتَّ بصرك عن محارم الله ، ولا تحرَّيت الحلال في كسب المال
، ولا تحرَّيته في إنفاقه ، ولا أمرتَ بالمعروف ، ولا نهيتَ عن المنكر ، ولا تعلَّمتَ العلم ، ولا خدمتَ الناس ، فماذا جرى ؟ وماذا حدث ؟ أؤكَّد لك أن إبليس قال مثل مقالتك ، فماذا قال ؟ في كتاب الله عزَّ وجل
قوله :
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
(سورة ص)
فإبليس اعترف بوجود الله عزَّ وجل ، واعترف بأنه عزيز ، ومع ذلك فإن إبليس كان رأس الكفر والضلال ، إذاً :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾
لا يستطيع النبي ، ولا أيُّ إنسانٍ أن يحدث في نفس الإنسان الهُدى ، ولكن يستطيع أن يدلُّه عليه ، أن يقنعه بالسير فيه ، أن يبيِّن ، أن يوضِّح ، أن يفَصِّل ، أن يُغْري ، أن يوازن ، أن يقارن ، هذا كلُّه من مهمَّات
الداعية .
أحياناً تجد شطحات ، منها كما يُروى أن أحد العارفين بالله نظر في إنسان فتاب إلى الله ، هذه ليست للنبي ، لعلها كرامة أكرمه الله بها ، وانتهت ، وقد لا تُكرر أبداً ، وهذا ليس دائماً في طاقة البشر ، والدليل :
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
(سورة المسد)
هو عمُّ النبي صلى الله عليه وسلّم ، وقد سمع دعوة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلّم ، ونظر إليه النبي صلى الله عليه وسلّم ، لكن :
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
ومثله ابن سيدنا نوح ، إذاً لا تستطيع أن تحدث الهدى ، ولكن تستطيع أن تفصِّل ، وتبيِّن ، وتوضِّح ، وتقرِّر ، وتوازن ، وتقارن ، وتبيِّن الأسباب والنتائج والعواقب ، وهذا كيف عامله الله عزَّ وجل بعد أن
استقام ، وهذا كيف دمَّر الله ماله بعد أن أكل الحرام ، هذا كلُّه توضِّحه للناس ، عندئذٍ لعلهم يقنعون فيهتدون ، الهُدى عمل لا يستطيع أحد أن يفعله لك إطلاقاً .
فالطالب أحياناً يقبلون منه أن يستلم كتابَ طالبٍ آخر ، أو ما يشبه ذلك ، أي ينوب عنه في أشياء جانبية ، أما الامتحان فمن سيؤديه ؟ فهل من الممكن أن يقدِّم واحد طلباً للوزارة ، وفيه أني مريض ، وسيقوم
أخي بأداء الامتحان بدلاً عني ؟ هذه مستحيلة ، الامتحان لا يؤدَّيه إلا الشخص نفسه ، بالكتب أو بالبطاقة معك توكيل فتستلمها ، أما أن تؤدي امتحاناً مكانه فهذا مستحيل .
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
(سورة القصص : آية 56)
الهداية الربانية هداية توفيق :
فإذا عاد هذا الفعل على الله عزّ وجل ، الله عزّ وجل يشاء الهداية وفق نظام ، أي أن هدايته ليست مِزاجية :
﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
(سورة الإنسان)
هذا واضح ، أنتم مخَيَّرون أيها العباد ، لكن : ]وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ [ ، فمشيئة العباد مشيئة اختيار ، ومشيئة خالق الأكوان مشيئة فحصٍ واختبار .
نحن نقول : إن كل طالب يحمل شهادة ثانوية له أن يتقدَّم بطلب إلى الجامعة ليختار الفرع الذي يحبَّه ، هناك طالب حصل على مجموع قدره مئة وخمس علامات ، وتقدم إلى كلية الطب ، الجامعة تدرس هذا
الطلب ، هو اختار الطب ، ولكن ليس لديه علامات تخوّله دخول كلية الطب ، مشيئة الجامعة إذاً مشيئة فحصٍ واختبار ، إما أن ترفُضَ الطلب لعدم إمكان هذا الطالب متابعة هذا الفرع ، وإما أن توافق إذا
حصل على المجموع الكامل ، فهناك مشيئتان : مشيئة اختيار ، ومشيئة فحصٍ واختبار ، فأنت اطلب ما شئت ، يا ربِ ، أدخلني الجنة ، كأن تقول أمام بيت فخم : اجعلوا هذا البيت ملكي ، فأين الثمن ؟ ادفع
الرُزَم المكدَّسة حتى تملكه ، وتنقل ملكيه لك ، إذاً :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
(القصص)
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
أيْ لا تُزَكِّ نفسك .
1 – التقييم ليس من شأن البشر :
أنا أقول : إن كل إنسان له عند الله مكانة لا يرفعها مدح المادحين ، ولا يخفضها ذَمِّ الذَّامين ، أنت معك في البيت كيلو من المعدن ، بذكائك ومهارتك وقدرة إقناعك أقنعتَ الناس أنه ذَهَبٌ ، والناس صدقوك أنه
ذهب ، بينما هي حديد ، فمن الخاسر ؟ أنت ولو صدقوك ، وإذا كنت تملك هذا الكيلو من الذهب الخالص ، والنَّاس يتهمونك أنك تملك الحديد ، من الرابح ؟ أنت ، لأنه في النهاية علاقتك مرهونة بنفسك ،
والعارفون بالله عزَّ وجل هناك من يعظِّمهم إلى أعلى درجة ، سلطان العارفين الشيخ مُحْي الدين رضي الله عنه وأرضاه ، ويأتي أُناسٌ آخرون يسمونه الشيخ الأكْفَر ، لا مدح المادحين يرفعه عند الله ، ولا ذم
الذامين يخفضه عند الله ، بل مكانته يحددها عمله ، وإخلاصه ، وعلمه ، وإقباله ، وصفاؤه ، ومحبته ، لذلك فالقضية معلقة بك ، هناك آية قرآنية تلغي كل المشكلات السابقة ، قال تعالى :
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
(سورة البقرة)
يعني أنه مضيعة وقت ، أحدهم يقول : ابن خالتي أخذ الأولية ، يرد عليه آخر : لا ، لم يأخذ ، لا ، بل أخذ ، وتضاربا ، فاترك ابن خالتك ، وانظر إلى نفسك ، أنت ما معك من شهادة ؟ اترك ابن خالتك ،
واهتم بنفسك ، من أنت ؟ ماذا يجديك أن تدافع عنه ، أو ألا تدافع عنه ؟ هذا كلُّه مستقى من قوله تعالى :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾
(القصص)
لدينا آية ثانية ، وهي قوله سبحانه :
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾
(سورة الإسراء)
أي أنك بشر ، ولست إلهاً ، لا تقل : فلان في جهنم ، من قال لك ذلك ؟ هل أنت متأكِّد ؟ أنت لك الظاهر ، والله عزّ وجل يتولى السرائر ، وتَقْييم الآخرين ليس من شأن البشر ، بل هو من شأن خالق البشر ،
وقد يعصي الإنسانُ اللهَ ، نعم هو يعصي الله ، لعلَّه يتوب ، ولعله يختم له بالإيمان ، ولعله يموت عاصياً ، هذه المعصية معصية ، أما أن تحكم على مستقبل الناس فإن هذا تجاوز لمقام العبودية ، أنت لك حجم ، قل : الله
أعلم ، هداه الله ، إذا رأيت إنساناً متلبِّساً بمعصية فاُدعُ له بالهدى ، ولا تقل : هذا إلى جهنم ، من قال لك ذلك ؟ هناك أشخاص بلغوا أعلى المراتب ، ولهم بدايات سيِّئة جداً .
سيدنا خالد كم مرة حارب النبي اللهم صلِّ عليه ؟ وحينما أسلم خاض مئة معركة أو زُهاءها ، وفي كل هذه المعارك حقق النصر ، وفي سبع سنوات حقق من الإنجازات ما لا يحققه الآخرون في مئات السنين ،
القضية قضية .. " اللهم اجعل خير عمرنا آخره ، وخير أيامنا يوم نلقاك ، نلقاك وأنت راضٍ عنا " .. وقالوا :
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾
الإنسان مخيَّر ، ويدفع الثمن ، ويؤدي الطاعات ، وله الجنة ، أو اتبع الشهوات وله النار ، ولكنني أُلِحُّ على فكرة قلتها كثيراً ، يجب أن تطلب الهدى ، وأن تدفع ثمن الهدى ، إذا طلبته بلا ثمن فهذا ذنبٌ من الذنوب ،
لأن طلب الجنة من دون عملٍ ذنبٌ من الذنوب .
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
(القصص : آية 57)
شبهة الضعفاء ومرضى القلوب :
من إسقاطات الآية في واقع المسلمين :
هذه الآية دقيقة جداً ، لأنها مستمرة المعنى والمدلول ، يقول لك شخص : إذا استقمتُ كما تقول أخسر عملي ، خالق السماوات والأرض إذا أطعته هل تخسر شيئاً ؟ هل يُعْقل ألاّ يكون خالق السماوات والأرض
ضامناً لك إذا آمنت به ؟ أترى هذا الإله العظيم يليق به إذا آمنت به ، واستقمت على أمره أن يتخلَّى عنك ؟ وأن يجعلك في الدرجة السُفْلى في المجتمع ؟ أيعقل أن تكون من نتائج الطاعة الخسران ؟
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
(سورة السجدة)
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
(سورة الجاثية : آية 21)
هذا مستحيل في حق الله عزّ وجل ، أيْ إذا كنت مؤمناً صادقاً هل تعامَل كما يعامَل الفاسق الفاجر ؟
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
هذه آية واسعة جداً ، تارةً يقول لك إنسان : لو أنني حضرت هذه الدروس فأنا أخاف ، الله عزّ وجل الذي بيده ملكوت السماوات والأرض أليس في قدرته أن يحميك إذا أردت أن تتعرف إليه ؟ هل هناك إلهٌ
آخر معه ؟
﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
(سورة النحل : آية 51)
إذا قلت : أخاف ، أو إذا قلت : إذا استقمت في البيع والشراء أفَلِّس ، فالناس كلهم يعملون بهذه الطريقة !!! معنى هذا أنه هناك إلهين ، يوجد إله يحكم الأسواق ، وإله يحكم الآخرة ، ربنا عزّ وجل يقول :
﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
وهذه آية أخرى :
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
(سورة الزخرف : آية 84)
هو نفسه الذي أنزل هذا القرآن ، وحرَّم عليك الربا ، هو نفسه في الأرض إله ، في البيع والشراء ، والربح والخسارة ، والمرض والصحة ، يا أخي ، إذا آمنا بمحمد نُتَخَطَّف من أرضنا ، ما هذا الكلام ؟ الله عزّ
وجل قال :
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾
(سورة الفتح : آية 10)
مَن هم ؟
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
(سورة هود)
كيف ؟ هذا شيء خلاف المنطق ، لأنه خالق الكون ، فإذا آمن به إنسان ، واستقام على أمره هل يفقد الحماية ؟ بالعكس ، الحماية كلُّها تتوفر إذا آمنت به :
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
(سورة الأنعام)
[ ، غير ( الأمنُ لهمُ ) ، لأن الصيغة الثانية معناها : الأمن لهم ولغيرهم ، أمَا : ]لَهُمُ الأَمْنُ صيغة : ]لَهُمُ الأَمْنُ [ ، فالأمن خاصٌ بهم ، ولا أحد يأمن مثلَ أمنِهم ، ففي الجملة قصر ، الأمن كله في معرفة الله ، أي أن
كل الأخطار ، وكل المخاوف والمتاعب في قبضة الله عزّ وجل ، فإذا اصطلحت معه ، واستقمت على أمره أتخشى من شيء ؟ أين الله ؟ هو معك أينما كنت ، كل شيءٍ بيده ، ما قال لك : اعبدني يا عبدي إلا بعد أن
طمْأَنك ، وقال لك :
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
(سورة هود : آية 123)
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾
(سورة الأنفال : آية 36)
﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾
(سورة القصص)
لا تخافي عليه ، لأننا معه ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ هذه الآية دقيقة جداً لأن أُنَاسًا كثيرين يقولها بصِيَغٍ كثيرة ، هذه الآية لها مليون صيغة ، أنا أخاف أن أدفع زكاة مالي فيحسبونني صاحب دين ، هذا أمر
إلهي ، أمر خالق الكون ، أخاف ألا أصافحها فتحقد عليَّ ، وتوشي لرئيسي بما حدث ، اضطررت أن أصافحها :
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
لا نقدر ، أخاف إن أغلقت المحل أن أخسر إذا حضرت إلى سماع الدرس ، فتقول عندئذٍ : عندنا الآن موسم ، هذه الآية يصوغها الناس بآلاف الصيَغ ، إما أن يربط تجارته بترك مجالس العلم ، أو يربط سعادته بترك
الصلاة أحياناً ، أو يربط نجاحه في عمله بإظهار أنه لا دين عنده مثلاً ، هذه كلها شرك بالله عزّ وجل :
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
الجواب الرباني :
الله عزّ وجل بماذا ردَّ عليهم ؟ قال :
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
(القصص)
أي وأنتم في الشرك فقد حَباكم الله عزّ وجل حَرماً آمناً ، والناس من حوله يُتخطَّفون ، بعد أن آمنتم بالنبي عليه الصلاة والسلام هل تتخطّفون ؟ مستحيل .
يقولون : إن سيدنا موسى دعا الله بالغيث ، فقال له الله عزّ وجل : يا موسى ، إن فيكم عاصياً لا أستجيب لكم ، فقال موسى عليه السلام : من كان عاصياً لله فليغادرنا ، بعد حين هطلت الأمطار بغزارة ،
فقال : يا ربِ من هو هذا العاصي ؟ فقال : يا موسى عجبت لك ! أأستره عاصياً ، وأفضحه تائباً ؟ فهل هذا معقول ؟ وأنتم بالشرك في أمن وسلام ، وبعد أن آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلّم تتخطَّفون من
أرضكم !؟ وأنت مُقَصِّر في عبادة الله هطلت مثلاً وقعت في خمسين مخالفة ، والله سترك وحفظك ، بعدما استقمت ، واصطلحت تقول : أخي أخاف على مركزي ، على وظيفتي ، أخاف على دخلي وتجارتي ،
أخاف إذا وضعت لابنتي الحجاب ألا تتزوج ، إذا أطعت الله عزّ وجل تصبح ابنتك بلا زواج !؟ هذا منطق سخيف جداً ، إذا استقام على أمر الله ، وفعل الصالحات يخاف أن يضَيِّع الدنيا ، هذا المنطق ردَّ الله عزَّ
وجل عليه فقال :
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
الواقع السيء والمفهوم الخاطىء :
إذا لم تغشّ فلن تربح ، هذا الكلام يشبه هذا الكلام تماماً ، يا أخي ماذا نفعل ؟ الناس كلهم يغشون !!! أنا عندي أولاد ، إذا لم أغش لا أربح ، هكذا تقول ؟ الذي أمرك ألا تغش ألا يقدر أن يحميك من
الخسارة ؟ الإله أمرك ألا تغش عن طريق النبي صلى الله عليه وسلّم .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا ، فَقَالَ : يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفَلَا جَعَلْتَهُ
فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ ، ثُمَّ قَالَ :
(( مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا )) .
(مسلم والترمذي واللفظ له)
إذا لم أغش لا أعيش ، وإذا لم أكذب لا أعيش ، عملي متوقف على الكذب ، هذه الآية دقيقة جداً ، يقول لك أحدهم : أنا لابد أكذب ، وأقول له : هذه الدعوى رابحة ، لكن هذه الدعوى حقيقة ليست رابحة
، ماذا أفعل ؟ إنني مضطَّر أن أقول له : هي رابحة ، وهذا دفع الحساب ، أماطله ثماني سنوات ، وأقول له بعد ذلك : لم أستطع شيئًا ، وإذا لم أكذب لا أعيش ، وإذا كان هذا الدواء لم نغير تاريخه لا يُباع معنا ، أرميه في
سلة المهملات ؟! هذه القضية دائمةً ، أي إن لم يعصِ الله فلا يربح ، أقول : إن هذه مفارقة عجيبة وعجيبة ، لأنه من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى .
إنه من المستحيل أن تعصي الله وتربح ، ومن المستحيل أن تعصيه وتسعد ، ومن المستحيل أن تعصيه وتتفوق ، ما عند الله لا يُنالُ بمعصية الله .
إن شاء الله هذه الآية تحتاج إلى وقفة مَلِيَّة :
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً﴾
(القصص : آية 57)
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾
(سورة الفيل )
﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
الحمد لله رب العالمين