سورة فصلت (041)
الدرس (5)
تفسيرالآيات: (30-32)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس من سورة فصِّلت ، ومع الآية الثلاثين ، وهي قوله تعالى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
1 ـ الغرضُ من استعمال التوكيد :
أيها الإخوة،إنَّ حرف مشبَّهٌ بالفعل يفيد التوكيد ، فهنا تؤكِّد ماذا ؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾
فإن تفيد توكيد ، أو تأكيد إسناد الخبر للمبتدأ ، تقول : العلمٌ نافعٌ ، يقول لك أحدهم : أين نفعه ، فالمتعلِّمون أقلّ الناس دخلاً ؟ تقول له : إنَّ العلم نافع ، تريد أن تؤكِّد إسناد الخبر للمبتدأ ، أي أن العلم نافعٌ قطعاً،وأؤكِّد لك ذلك .
فربنا سبحانه وتعالى إذا جاء في كلامه أدوات توكيد فالتوكيد لنا ليطمئننا ، وليزيل وحشتنا ، وليجعلنا نطمئن إلى وعده ، فالتوكيدات التي تأتي في القرآن الكريم المقصود منها تطمين المؤمن ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
2 ـ هل يكفي أن يقولوا : ربنا الله ؟
قد تسألون هذا السؤال : هل يكفي أن يقولوا : ربنا الله ؟ كلمة ( قال ) في القرآن الكريم وفي السُّنة المطهَّرة تعني أنه اعتقد جازماً ، عملية تثبيت ، هذا الإنسان درس ، واستقصى ، وتأمَّل ، وحلَّل ، وبحث عن الأدلَّة والأسباب ، ثم استقرَّت في نفسه حقيقة ، فإذا استقرَّت يقول : أنا مؤمنٌ بكذا ، لكن بعد ظهور النفاق صار القول يحتاج إلى أن يؤكِّده العمل ، وأن يؤكده ما في القلب ، لأن الإيمان تصديقٌ بالقلب ، وإقرارٌ باللسان ، وعملٌ بالأركان .
" ليس الإسلام بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل " .
(هذا القول لم يصح عن النبي عليه الصللاة والسلام ، بل هو من قول الحسن البصري)
أما كلمةقالوا هنا فمقصودها إنسان بعد البحث ، والدرس ، والتأمُّل ، والاستقصاء ، والأخذ والرد استقرَّت في نفسه حقيقة ، فلمَّا استقرَّت عبَّر عن استقرارها بأنه قال كذا ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
3 ـ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
مقام الربوبية :
ربنا تعني مُرَبِّينا ، إذ لا يوجد اسم من أسماء الله عزَّ وجل أقرب للمؤمن خاصَّة ، وللإنسان عامَّة من كلمة رب ، إذ مقام الربوبيَّة يحتاج إلى عِلم ، ويحتاج إلى رحمة ، وخبرة ، وقوَّة ، وغنى .
تصوَّر أبا في أعلى درجات الفهم ، والغنى ، والقوة ، والحكمة ، والنزاهة وعنده طفلٌ صغير يربيه ، ويربي جسده ، فإذا احتاج إلى عمليَّة جراحيَّة يجريها له عند أمهر الأطبَّاء ، إذا لزمه تقويم أسنان يقوم له به عند الأطبَّاء ، وإذا رأى في سلوكه انحرافاً يسلك معه طريق التربية الرادعة أو المشجِّعة .
فالتربية مقام أساسه العلم والرحمة ، وأساسه الحكمة ، والعطف ، والقوَّة ، والغنى ، والخبرة ، فإذا أيقنت أن الذي يربيك حقيقةً كيف يربيك ؟ أولاً اختارك من هذا الأب وهذه الأملحكمةٍ ما بعدها حكمة ، ولو كُشف الغطاء لاخترت الواقع ، اختارك من أبٍ وأم ، واختارك أن تكون في هذه البلدة ، وأن تأتي إلى الدنيا في هذا الزمن ، وأعطاك شكلاً خاصَّاً ، وقدارت ومعطيات وظروفاً بيئيَّةً خاصَّة ، فهذه الأم وذاك الأب ، وهذا المكان وذاك الزمان ، وهذه القدرات وتلك المعطيات ، وهذه الظروف التي مررت بها هذه من عند حكيمٍ ، عليمٍ ، خبيرٍ ، رحيمٍ ، قويٍ ، غني ، وليس في الإمكان أبدع مما كان .
لا يكمل إيمام مؤمن حتى يرضى بقضاء الله وقدره :
إذا أيقنت أن ربَّك هو الله ، الله عَلَمٌ على الذات صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، واجب الوجوب ، الذي بيدهمقاليد السماوات والأرض ، والكون كله بيده ، والأحداث كلَّها من صُنعه ، وخصوم الإنسان كلُّهم في قبضته ، وأجهزة الإنسان كلها رهن إشارته ، ما فوق الإنسان ، وما تحت الإنسان ، وما قبل الإنسان ، وما بعده ، وكل ما يجري في هذا الكون بيده .
﴿ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64) ﴾
(سورة غافر)
الإله الذي أوجد هذا العالم وسيَّره ، هو الموجود والواحد والكامل ، كلمة الله تعني مقام الخالق ، مقام الخلق ، مقام الربوبيَّة ، مقام التسيير والألوهيَّة ، وتعني الأسماء الحسنى ، والصفات الفضلى ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
الإنسان لا يستكمل إيمانه إلا إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، والإنسان أحياناً من بعض الأمثلة الماديَّة يفهم بعض الحقائق .
تصوَّر طفلا صغيرا له أبٌ عظيم ؛ عظيم برحمته ، وبعلمه ، عظيم بحكمته ، عظيم بحرصه،عظيم بإخلاصه ، وبقوَّته ، كل هذه الخبرات ، وتلك القُدرات ، وهذه الحِكَم ، وتلك العلوم كلها من أجل أن يكون هذا الابن في أعلى درجات الرُقي ، الأب مربٍ والأم مربيَّة ، أما إذا وضعنا تربية الأب والأم أمام تربية الله عزَّ وجل فهي لا شيء ، لأنهما يربيان ابنهماعلى حسب علمهما ، وشتَّان بين علم المخلوق وعلم الخالق ، يربيان ابنهما على قدر إمكاناتهما ، وشتَّان بين محدوديتهما وبين طلاقة قدرة الله عزَّ وجل ، والإنسان حينما يؤمن أنّ الله هو المربي تُحلُّ كل مشكلاته ، لأنه رحيم حكيم عليم ، وهذا الذي ساقه لك قراره،هذا أمره ، لهذا قالوا:" الإيمان بالقدر يذهب الهمَّ والحزن " ، فما من مشكلة ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ..
(( لا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ )) .
(من صحيح مسلم عن أبي هريرة)
الإنسان لا يسعد إلا إذا اطمأنَّ إلى جهةٍ عظيمةٍ ترعاه وتربيه ، لذلك ترى معنويات المؤمن عاليةً جداً ، من أين جاءها هذا العُلو ؟ من ثقته أن الله هو المُربي .
تربية الأب والأم مظهرٌ لعناية الله بالإنسان :
مرَّة سمعت كلمةً في الطريق أثارت مشاعري ، أحدهم يقول للآخر : إذا لم يكن له أب فله رب ؟ شعرت أن ربنا جلَّ جلاله هو المُربي وحده ، وما تربية الأب وما تربية الأم إلا مظهرٌ لعناية الله بهذا الإنسان .
ليس هناك أمرٌ في كتاب الله من أوله إلى آخره ، ولا في سنة رسول الله ، يقول لك : كُلِ الطعام ، لأن هذا شيء بديهي ، فالله عزَّ وجل أودع فيك الدافع إلى تناول الطعام ، إنه دافع قوي ، فأنت لا تنام الليل إن كنت جائعاً ، تبحث عن الطعام من دون أن تحتاج إلى أمر يقول لك : كل الطعام ، بل رَكَّبه في طبيعتك ، ذكرت هذا المثل تمهيداً لمثل آخر :
الله عزَّ وجل أودع حبَّ الأبناء في قلوب الآباء ، الأب لا يسعد إلا إذا كان ابنه سعيداً ، فلا يقر له قرار إلا إذا كان ناجحاً في عمله ، وزواجه ، وبيته وفي مجتمعه ، بل إن الأب يتمنَّى أن يكون ابنه أعلى الناس وأعلى منه ، والأم كذلك ، فحُب الله لهذا المخلوق جُسِّد وتمثَّل في حب أمِّه وأبيه له .
اذهب إلى بعض المصحَّات أو إلى مستشفى الأطفال ، وانظر ، الأمهات على اختلاف زيِّهن ، وانتماءاتهن ، ومشاربهن ، وثقافاتهن ؛ أم مثقَّفة ، أم غير مثقَّفة ، أم مسلمة ، أم غير مسلمة ، أم متفلِّتة من الدين ، أم منضبطة بأمر الله ، كل هؤلاء النسوة يعطفن على أولادهن ، ويشفقن عليهن بشكلٍ لا يصدَّق ، وهذا ما أودعه الله في قلوب الأمهات .. "إذا أحبَّ الله عبداً ألقى حبَّه في قلوب الخلق " .
والله الذي لا إله إلا هو حينما أرى عناية أبٍ أو أمٍّ منصبَّةً على ولدهما لا أرى إلا عناية الله مجسَّدة في عناية الأب والأم .
قصَّة رمزيَّة لم تقع ، لكن لها معنى : أمٌ كانت تخبز على التنور ، وابنها على طرف التنور ، فكلَّما وضعت رغيفاً في التنور قبَّلته ، نبيٌ كريم قال : يا رب ، ما هذه الرحمة التي أودعتها في قلب هذه الأم ؟ قال : هذه رحمتي ، ولو نزعتها لألقته في التنور .
أمامنا بعض الحيوانات تأكل أولادها ، حيوانات كثيرة ، تربيه إلى أجلٍ ، ثم تأكله ، من أودع في قلوب الآباء والأمَّهات هذا العطف وذاك الحرص ، انظر إلى كل الأُسر تقريباً ، الأب يسعى ليلاً نهاراً لتزويج أبنائه ، ولتأمين مستقبلهم ، والأم تسعى ليلاً نهاراً لزواج بناتها ، بل إن في الأمهات عاطفةً عمياء فالأم تعطف على بناتها وتراهن في أعلى المستويات وهنَّ لسن كذلك ، لكن هذا من تكريم الله للإنسان .
حينما يكون علمُ الإنسانِ محدوداً يرى أمه وأباه ، أما إذا تعمَّق في العلم فيرى رحمة الله تجسَّدت في رحمة الأب والأم ، ينظر عناية الله تجسَّدت في عناية الأب والأم ، وحكمة الله تجسَّدت في أنه أودع في قلب الأم والأب هذا العطف وذاك الحب وهذه الرحمة .
كيف أن الإنسان يندفع إلى تناول الطعام ، ولا يحتاج إلى أمر ، ولا إلى توجيه ، ولا فريضة ، ولا أن يسأل : أخي ما رأي الفقهاء في تناول الطعام ؟ فأنت لا تحتاج إلى رأي الفقهاء ، قم وكل ، هذا الموضوع لا يحتاج إلى رأي الفقهاء ، وهو مركَّب في جِبِلَّتك ، وفي كيانك . وكذلك رحمة الآباء والأمهات بالأبناء مركَّبةٌ في كيان كل أبٍ وأم ، وهذا تجسيدٌ لرحمة الله عزَّ وجل ، حتى أن بعض المفسِّرين حينما فسَّر قوله تعالى :
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾
(سورة طه : من الآية 39)
فُسِّرَت هذه الآية بأن محبة العباد انعكاسٌ لمحبة الله .
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
إذا آمنت أن الله هو الرب ، وأنا أقول لكم أيها الإخوة : والله لو كُشِفَ الغطاء ، أو لو كشف الله لهذا الإنسان عن حكمة الذي ساقه إليه من المكاره ، والصعوبات ، والمتاعب والله الذي لا إله إلا هو يجب أن يذوب كالشمعة تماماً حباً لله عزَّ وجل ، هكذا ينبغي له أن يكون ، لكن هذا الذي يعترض على أفعال الله ، وعلى حكمته ، وتصرُّفاته ، وقد يطعن في بعض أسمائه الحُسنى هذا إنسان لا يعرف الله ..
﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 154)
أنت ربك الله ، فالتربية تبدأ ؛ إذا استقمت يشجِّعك ، إذا انحرفت يؤدِّبك ، وإذا كسبت مالا حلالا يبارك لك فيه ، والمال الحرام يتلفه لك ، وأعطاك درسا قاسيا ، وإذا تجبَّر الإنسان قصمه ، وإذا تكبَّر أهانه ، وإذاتواضع رفعه ، فحينما تفهم على الله أفعاله تكون قد قطعت شوطاً كبيراً في طريق معرفة الله .
4 ـ المؤمن يرى ربَّه الله :
مركز الثِقل في الآية :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
الإنسان لا يرى الله ربَّه ، بل يرى زيدا أو عُبَيدا ، ويرى شخصاً قوياً هو ربُّه يعبده من دون الله ، يتمنَّى رضاه ، وينفِّذ أمره بتفاصيله ، ولو خالفتْ أوامره أوامر الله عزَّ وجل ، أما المؤمن فيرى ربَّه الله ، قال :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
5 ـ التربية تعني الحرصَ على التأديب :
آمن بالله خالقاً ، وآمن بالله مربياً له ، لكن اسم المربّي هو أقرب اسم من أسماء الله الحسنى للإنسان ، يربيك الله عزَّ وجل فيسوق لك مرضًا ، وهذا المرض يردُّك إليه ، أو يسوق فقرًا ، وهذا الفقر يُلْجِئُكَ إلى باب عبوديَّته ، ويفعل معك فعلاً بليغاً ، فيعطيك درساً لا يُنسى ، الإنسان أحياناً يتكلَّم كلمة فيها شرك فربنا يؤدِّبه ، فالمربي مؤدِّب .
لو كان هناك في الطريق ثلاثةأولاد يدخِّنون مثلاً ، فمرَّ رجل ، وهذا الرجل أبٌ لأحد هؤلاء الأولاد ، وعمٌ للثاني ، والثالث لا يعرفه ، ولا يقربه ، أي ليس هناك قرابة ، تجد هذا الأب انفعل انفعالاً شديدًا ، وكاد يخرج من جلده حرصاً على ابنه ، وانفعاله مع ابن أخيه أقلُّ ، أما هذا الطفل الثالث فيقول له : امش ، اذهب إلى سبيلك ، فالأب يعنِّف ابنه تعنيفًا شديدًا ، وأقلّ من هذا التعنيف لابن أخيه ، وهذا الطفل الثالث لا يعنِّفه إطلاقاً.
إذاً : التربية تعني الحرص ، والحرص يعني التأديب أحياناً ، فربنا عزَّ وجل لأنه يحبُّنا ، ولأنه خلقنا لجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض ، ولأنه يحرص على سعادتنا فلذلك يؤدِّبنا .
أحياناً أشبه بالأب الطبيب ، لماذا أقول : أب طبيب ، لأنه يجمع بين الرحمة والعلم ، فالأب الطبيب إن رأى في جسد ابنه خللاً يمارس عليه كل وسائل الشدَّة ، لحمايته من الطعام المؤذي ، فالتعليمات قاسية جداً ، لأن الحِرص شديد جداً ، والرحمة شديدة جداً ، فالرحمة مع العلم ليس هناك أعظم منها ، والآن هناك أمَّهات جاهلات يرحمن أولادهن رحمةً عمياء ، فيسببن لهم الدمار ، ولكن رحمة الله مع العلم ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
ثُمَّ اسْتَقَامُوا
1 ـ معنى الاستقامة :
استقاموا على أمره ، واستقاموا إليه ، واستقامت عقيدتهم ، واستقام وقلبهم بالإقبال عليه، وجوارحهم بالانضباط بأمره ونهيه ، والاستقامة تعني أشياء كثيرة ، فلان عقيدته غير مستقيمة أي فيها خلل ، هؤلاء قالوا :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
ص ـ لابد من إتباع الإيمان بالاستقامة :
لكن المعنى الإجمالي هنا : استقاموا على أمره ، والشيء الذي يجذب النظر في هذه الآية أن تقول : الله ربيِّ ، والإسلام ديني ، ومحمدٌ نبيِّ ، من دون أن تستقيم على أمر الله ، ومن دون أن تتبع سُنَّة رسول الله ، فهذا كلامٌ فارغٌ لا يقدِّم ولا يؤخَّر ، فعلامة صدق إيمانهم بربِّهم استقامتهم على أمره ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
إعرابالذين اسم إنَّ ..
الجملة الأولى صلة والثانية معطوفة ، وكل هذا الكلام اسم إن ، أين الخبر ؟ الخبر هو الكلام المتمّم الفائدة ، فقد تقول أحياناً : فلانٌ الذي شاهدته معي البارحة ، ويقول لك : نعم ، كان طويل القامة ، يقول لك : نعم تذكَّرت ، يحمل محفظة ، نعم تذكَّرت ، الذي يرتدي ثيابًا بنية اللون ، ويقول لك : نعم ما الذي حصل له ؟ يحتاج إلى خبر ، الصفة غير الخبر ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
اسكت بعدها ، يقول لك : ما بهم ؟ ما شأنهم ؟ ما الخبر ؟ الخبر ..
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
خطران يهدِّدان الإنسان : الخوف من المستقبل والحزن على الماضي :
أيها الإخوة الكرام ، هناك خطران يعاني منهما كل إنسان ، الخطر الأول : الخوف من المستقبل ، يقول لك : الله لا يبرِّكنا ( يقعدنا ) ، هو ليس فيه شيء ، ولكنه خائف أن يبرك ، يسمع عن أمراض عضالة فتجده يدعو الله : يا رب ، هذه الأمراض صعبة ، يا رب عافِنا منها ، إذًا هناك خوف من المستقبل دائماً ، من مرض عضال ، أو من فقر مفاجئ ، أو من تدنٍ ، من وقف هذا الدخل ، من بوار هذه التجارة ، أي هناك خوف المستقبل .
وهناك ندم على ما مضى ، يقول لك : لو درست ، ولو تزوَّجت فلانة ، ولو اشتريت هذا البيت كان ثمنه عشرين ألفا ، والآن ثمنه ثلاثون مليونًا ، عرضوه عليَّ ، ولم اشتره ، فهذا الخوف من المستقبل ، والندم على ما فات ، هذان الشيئان المُقْلِقَان المؤمن عافاه الله منهما ، سُئل سيدنا علي كرَّم الله وجهه عن الزُهد فقال في كلمتين : << لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم >> .
فالمؤمن تأتيه الملائكة ، والشياطين يأتون أولياءهم ويوسوسون لهم ؛ فالملائكة دائماً تتنزَّل على المؤمن تطمئنه لمستقبله ، وتبعده عن أن يندم على ما فاته ..
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا ﴾
مما سيكون ..
﴿وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
على ما فاتكم .
قال لي أخ كريم : أنا كنت قبل خمسين سنة أنشط من الآن ، فالآن لست نشيطا ، والإنسان إذا تقدَّمت به السن تضعف حركته ، ويضعف نشاطه ، ويحتاج إلى قطع غيار ، وإلى نظَّارة طبيَّة ، وإلى بدلة لأسنانه ، ويندم على سن الشباب ، كيف كانت أسنانه كاللؤلؤ في فمه ، وكيف كان حاد البصر ؟ كيف كان يتحرَّك حركة نشيطة جداً ؟ يركض خمسة كيلو مترات ، والآن لا يركض ، ولا يمشي في الأصل ، هذا الندم على ما فات شيء مؤلم ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ ﴾
لا يوجد إنسان لا يترك بيتًا في حي خشن ، فيه بيوت مزدحمة جداً ، والأولاد كُثُر ، والصرف الصحي سيئ مثلاً ، والبيوت غير صحيَّة ، وينتقل إلى بيت فخم بحي راق ، حيث الشمس الساطعة ، وحيث المساحات الواسعة والحدائق الغنَّاء ويتألَّم ..
﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
1 ـ المؤمن يرى مقامه في الجنة :
يشعر المؤمن بدنوّ أجله ، ومن كرامته علىالله أن الله يريه مقامه في الجنة ، فإذا أراه مقامه في الجنَّة يقول : لم أرَ شرَّاً قط ، وينسى كل المتاعب التي عاناها في حياته ، وكل المصاعب ، وكل الأمراض حتى كل الأخطار ، لذلك ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :
((إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ )) .
)(من صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر
ومن أدقِّ توجيهات هذا الحديث أن الرجل المؤمن إذا وافته المنيَّة ، وأراه الله مقامه في الجنَّة ، يتألَّم كثيراً لأن أهله يبكون عليه ، هو في أعلى مقام وفي أسعد حال ، ولذلك فعلامة المؤمن أنه متفائل ، ولا يزيده مضي الزمن إلا رفعةً ، وإنّ تطور الزمن لصالح المؤمن ، لأن خطُّه البياني صاعد ، ومضي الزمن لمصلحته ، لأنه حينما يقوده الزمن إلى الموت ، و" الموت تحفة المؤمن " .
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾
هذه الآية تذكِّرنا بقوله تعالى:
﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38) ﴾
(سورة البقرة)
وتوجد آية مشابهة:
﴿فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) ﴾
( سورة طه)
اجمع الآيتين ، الذي يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يخشى مما هو آت ، ولا يندم على ما فات .
وأجمل آية توضِّح هذه الآيات:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا ﴾
(سورة التوبة : من الآية 51)
2 ـ الخوف من المجهول والندم على الفائت تدمير للصحة النفسية :
والحقيقة أن المستقبل مخيف ، إذا نشأ الإنسان في معصية الله ، ومكَّن حياته ، استقرَّت حياته،واستقر دخله ، ولا يقلقه إلا الأمراض التي يلدها الزمان ، ولا يزعجه إلا المجهول ، أما المؤمن فهو مرتاحٌ لعطاء الله ، ومرتاحٌ لتطمين الله عزَّ وجل ، و لوعْد الله ، ولبشارة الملائكة ، فهذا الذي لا يضل عقله ولا تشقى نفسه ، ولا يخشى مما هو آت ، ولا يندم على ما فات ، ماذا بقي في السعادة ؟ هذه كل السعادة ؛ لا شقاء ولا ضلال ، ولا ندم ولا خوف ، ودائماً الندم للماضي والخوف للمستقبل ، الأحوال النفسيَّة السيئة تدمِّر الصحَّة النفسيَّة .
الآن أيها الإخوة أكثر الأمراض أساسها الشدَّة النفسيَّة ، الضغط النفسي ، والقلق،والشعور بالحرمان ، والقَهر ، وهي المشكلة التي لا حل لها ، أما المؤمن فهو معافىً نفسياً من كل هذه الأمراض ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
لكن هذا الكلام يحتاج إلى همم عالية ، كلمة ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
3 ـ الفائدةُ من العطف بثُمَّ : ثُمَّ اسْتَقَامُوا :
ثمَّ تفيد الترتيب لا على التعقيب ، بل الترتيب على التراخي ، فلماذا جاءت ثم ؟ لمَ لم يقل الله عزَّ وجل : إن الذين قالوا ربنا الله فاستقاموا ؟ أن تقول : ربنا الله ، هذه ليست كلمة تقولها عرضاً ، هذه تحتاج إلى وقت ، وإلى مُدارسة ، وسؤال وجواب ، وطلب عِلم ، وتفكُّر في السماوات والأرض ، وتلاوة كتاب الله ، وحضور مجالس علم ، تحتاج إلى أن تبذل من مالك ، ومن وقتك ، وفراغك ، وخبرتك ..
﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
وهذا القول أَخَذَ من جهدهم ووقتهم الشيء الكثير ..
﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾
4 ـ الاستقامة لابد لها من وقتٍ وجهدٍ :
هذا معنى أول ، كلمة ربنا الله ربنا لخَّصها بكلمة ، لكنها جهد جاهد ، فأنت أحياناً تتكلَّم على حياة إنسان : أنه ولد في مكان كذا ، ونشأ في المكان الفُلاني ، وتلقَّى علومه الابتدائيَّة في المدرسة الفلانيَّة ، وعلومه الإعداديَّة والثانويَّة في المدرسة الفلانيَّة ، وانتسب إلى الجامعة ، وأنت تقول : ثم نال الدكتوراه ، سبع سنوات دراسة ، ماجستير ، ودكتوراه ، وأطروحات ، ومواد متمِّمة ، وأستاذ مشرف ، وأستاذ فاحص ، وأستاذ مقرِّر ، وأستاذ يُعطي النتيجة ، وأعد المحاضرة ، وأعد البحث ، وأعد كتابته ، بيِّضه لي مرَّة ثانية ، يقول لك : سبع سنوات متّ موتًا حتى نلت الدكتوراه ، أما في تاريخ الحياة فيقال : ثم نال الدكتوراه ، كلمة ، ولكن يقابلها سبع سنوات ، هذا معنى ..
﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾
لكن هذه تحتاج إلى وقت طويل ..
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
(سورة العنكبوت : من الآية 69 )
كم درس علم حضرت ؟ يقول لك : سبع سنوات لم أتغيَّب عن درس واحد ، كم من ماله أنفقه في سبيل الله ؟ وكم يوم استيقظ صباحاً فقرأ القرآن ، وذكر الله عزَّ وجل ؟ مائةألف أو مليون امرأة غضَّ بصره عنها ، كلَّما مشى في الطريق يغض بصره مثلاً ، فهذه الجهود النظريَّة والعمليَّة ، والبذل ، والتضحية ، وطلب العلم ، والتواضع لمن تتعلَّم هذا كلَّه مشمول بقوله : ثم ، التي تفيد الترتيب على التراخي ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
الحقيقة أنّ قيمة إيمانك من استقامتك ، قبل الاستقامة لا تفكِّر أن إيمانك له قيمة إطلاقاً ، لأنه قبل الاستقامة أنت مثلُ إنسان نظر إلى الشمس في رابعة النهار ؛ نظر ، فصفن ، فقطَّب جبينه ، ففكَّر ، وبعد هذا قال لك : الشمس ساطعة ، أنت ماذا فعلت ؟ ما فعلت شيئًا ، إني قلت : إنها ساطعة ، هي ساطعة ، وإن قلت : ليست ساطعة ، هي ساطعة ، سواء أثبت سطوعها لم تفعل شيئاً ، ولا إذا أنكرت سطوعها فعلت شيئاً ، إن قلت : غير ساطعة فلا أحد يصدِّقك ، وإن قلت : ساطعة فما فعلت شيئاً .
إذا اعترفت أن الله موجود ، تقول : أنا أشهد أنه لا إله إلا الله ، لكننا نريد أن نرى استقامتك ؛ وبيعك ، وشراءك ، والتزامك ، وصدقك ، وأمانتك ، وعفَّتك ، وغض بصرك ، وإحسانك لزوجتك ، ننظر أين عملك ؟ فلذلك الله عزَّ وجل جعل الاستقامة علامةً على صدق الإيمان ، وإلا فالإيمان نفاق ، والإيمان فيه خلل ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
قال : هؤلاء .
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
فعلامة المؤمن الصادق ، المطَبِّق لأوامر الله عزَّ وجل ، المتمثِّل سنة النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاف مما هو آت ، ولا يندم على ما فات ، ولقد ورد في حق الصِدِّيق أنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط .
من دواعي استسلامك لله عزَّ وجل شعورك أن الذي حدث وراءه حكمةٌ بالغة ، وأن الله بيده كل شيء ، وهذا الذي حدث فيه كل أسماء الله الحسنى ؛ فيه الحكمة ، والعدالة ، والرحمة، والخبرة ، والقوَّة ، والرَدع ، والتربية ، وكل أسماء الله الحسنى منطويةٌ في أفعاله ، ولذلك بعضهم قال : حينما يتحدَّث الله عن أفعاله ، يستخدم ضمير الجمع ..
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ﴾
(سورة يس : من الآية 12)
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) ﴾
(سورة القدر)
أما حينما يتحدَّث الله جلَّ جلاله عن ذاته فيستخدم ضمير المُفْرَد ..
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14) ﴾
(سورة طه)
فإنني وإننا ، إننا أي إن أفعاله فيها كل أسمائه الحسنى ، وكل أسمائه الحسنى في أفعاله ..
﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾
الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
1 ـ وعدُ الله بشارةٌ للمؤمن وسعادةٌ له :
الحقيقة أنّ بشارة الله للمؤمن ، ووعد الله له هو الذي يسعده .
إنّ إنسانًا فقيرًا جداً متعبًا جداً ، يعيش في أصعب الحالات ، لكنه موعود بمبلغ كبير يوفِّر له أجمل بيت ، وأجمل مركبة ، وأجمل مصير ، فهذا الوعد القطعي يمتصُّ كل متاعبه في الدنيا ، فالمؤمن راض ، لأنه موعود بالجنَّة ، قد يكون دخله قليلا فهو راض ، أو يكون في جسمه عدَّة علل فهو راض ، وقد تكون زوجته ليست على ما يرام فتجده يقول : الحمد لله على الحال التي الله قسمها لي ، حتى إن الإمام علياً كرَّم الله وجهه حينما سُئل عن قوله تعالى :
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
(سورة النحل : من الآية 97 )
قال : << الحياة الطيِّبة هي القناعة بنصيبك من الله عزَّ وجل >> .
2 ـ الرضى بقسمة الله من سعادة المؤمن :
إذا رضي الإنسان عن الله ، رضي عن نصيبه من الله ، قبِل شخصيَّته ، وقَبلَ شكله ، ودخله ، وحرفته ، وزوجته ، وأولاده ، فيقول : يا ربّ هذا أنت قسمته لي ، فما من إنسان أسعد من الراضي بما آتاه الله ، وهذا الرضى مقام عال ، يا رب أنت هكذا اخترت لي ، وأنا راض ، تجد أن المؤمن قلبه مفعمٌ بالرضى ، لأن رضاه من علمه ، يعلم أن هذا الذي ساقه الله إليه هو أكمل شيء ـ بالنسبة له طبعاً ، وليس كمالا مطلقا ـ فهذا الوضع يناسبه .
"إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه " .
وهناك حكمة إلهيّة ، فالمؤمن مستسلم لله عزَّ وجل ، وليس معنى هذا الكلام أن يقعد الإنسان عن طلب المزيد ، لا ، ولكن حينما يبذل كل طاقته وتنتهي به كل جهوده إلى هذا المكان ، فعندئذٍ يرضى بقضاء الله وقدره .
قال :
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
1 ـ الله وليُّ المؤمنين :
﴾﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ : والله هذه كلمة رائعة ، فالمؤمن يشعر أن الله وليُّه يدافع عنه ، الله سبحانه وتعالى ينقله من منزلةٍ إلى منزلة ، ويؤدِّبه ، ويكرِّمه ، ويفرحه ، ويبكيه أحياناً ، ويحرمه ، ويعطيه ، ويسوقه إلى عباده الصالحين ، يجمعه مع أهل الحق ، ويبعده عن مزالق السوء ..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ﴾
ولله المثل الأعلى : تصوَّر أبًا يزوِّج ابنته فيقول لك : أريد أن ألتقِي مع الخطيب ، وأريد رؤيته ، فيتفحَّص شخصيته ، وأخلاقه ، وصلاته ، ويسأله عن دينه ، وأين ستسكن ابنتي ؟ آلاف الأسئلة ، لأنه هو وليُّها الذي يرعاها ، ويحدب عليها ، ويعطف عليها ، ويحبُّها ، ولله المثل الأعلى ، إله خالق الكون يقول :
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ﴾
هنيئاً لمن كان الله وليَّه ..
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾
( سورة البقرة : من الآية 257 )
وربنا عزَّ وجل ينقلك من وضع إلى وضع أحسن ، ومن تفلُّت إلى تمسُّك ، ومن شقاء إلى لسعادة ، ومن ضياع إلى وجدان ، ومن نِقمة إلى رضى ، ويؤويك في بيت ، ويزوِّجك ، وييسِّر لك عملك التجاري فتربح فيأتيك الدخل الحلال ، ويجمعك مع أهل الحق ، ويجمعك مع الصالحين ، ويدخل على قلبك السرور ..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
2 ـ الاستقامة سببُ ولاية الله للمؤمن :
الإنسان إذا كان في طاعة الله صار الله وليُّه ، والحقيقة أنّ القضيَّة سهلة جداً ، لمجرَّد أن تستقيم على أمره تستحق أن يكون الله وليَّك ، خرج الإنسان عن أمر الله عزَّ وجل فكأنه جعل الشيطان وليَّه ، هو عدوٌ مضلٌ مبين ، فكل إنسان يعصي الله خرج من ولاية الله ، وصار تحت ولاية الشيطان ، هو وليُّهم يخرجهم من النور إلى الظلمات ، فالإنسان المؤمن إذا قرأ هذه الآية شعر أن الله وليُّه يدافع عنه ، يأخذ بيده كلَّما عَثَرَ ، كلَّها زلَّت قدمه يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة ، يتوب عليه ليتوب ، هذا معنى وليُّه ..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
فأنت لست سائباً ، فالله عزَّ وجل قال :
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115) ﴾
( سورة المؤمنون)
بل أنت ضمن التربية .
3 ـ ولاية الله للمؤمن في الدنيا والآخرة معًا :
النقطة الدقيقة : أحياناً الإنسان يحرص على مصلحة إنسان ، ولكن في الدنيا فقط ، فالأم تتمنَّى لابنتها البيت الفخم ، والزوج الغني ، والأدوات الحديثة ، والمركبة الفارهة ، وقد تنسى أن ابنتها ليست في طاعة الله ، فإذا قرَّت عينها بدنياها ، وبيتها ، وزوجها الغني ، والبنت ليست مستقيمة مثلاً ، فقد حرصت على دنياها فقط ، فهذه ولايةٌ ناقصة .
والأب أحياناً لو أنه اهتمَّ بطعام ابنه فقط ، ونسي مستقبله فهذه ولاية ناقصة ، أهمل دراسته ، وما اهتم بعلمه ، لكنه أمَّن له طعامه وشرابه وثيابه فقط ، فيقول له : هل ينقصك شيء ؟ ينقصه العلم ، وأن يتعلَّم ، فالولايات البشرَّية ولايات ناقصة مبتورة ، وأكثر الناس يتوهَّمون أن الإنسان إذا حقَّق شيئًا في الدنيا فقد حصل له كل شيء ، ويقولون : أمَّن مستقبله ، وركَّز وضعه ، ودخله ـ والحمد لله ـ كبير ، وعنده سيارة ، وبيت ، ومعمل ، ولا ينقصه شيء ، بينما لم يأخذ شيئا من الاتصال بالله ، فهو غارق في المعاصي ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
اللهُ حريص على آخرتنا ، وعلى دخولنا الجنَّة ، ولذلك كل ما تراه أعينكم من مصائب في الدنيا ، ومن نكبات ، وأهوال لتسوق العباد إلى الله عزَّ وجل .
رجل قال عن بلد تُعاني ما تعاني من خصومها الصرب ، قال : نحن لم نكن مسلمين من قبل ، وكنا نأكل الخنزير ، ونشرب الخمر ، ونأتي الفواحش ، ونفعل كل المعاصي ، والآن صرنا مسلمين بهذا الضغط الشديد ..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
فحتى النكبات الكبيرة أحياناً نفهمها فهما محدودا ، فهذه الدولة فعلت كذا مع جارتها ، فهناك فهم أعمق بكثير ، قال الله عزَّ وجل :
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
(سورة النحل)
وحتى الأحداث الكبرى لها تفسير توحيدي رائع جداً ..
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ﴾
الدنيا لا معنى لها إلا أن تكون سبباً للآخرة :
وبما أنّ الولاية تمتد للآخرة ، وكان التأديب في الدنيا ، ولو كانت في الدنيا فقط لكان الناس جميعهم في بحبوحة ، وفي غنى ، وليست هناك مشكلة ، ولا مرض ، ولا هم ، ولا حزن ، لكن لأن الله سبحانه وتعالى وليُّنا في الدنيا والآخرة ، والدنيا مطيَّة للآخرة ، ومزرعةٌ لها ، بل إن الدنيا لا معنى لها إلا أن تكون سبباً للآخرة ، لأن يوم القيامة حينما يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ يقولون :
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
( سورة الزمر : من الآية 74 )
فلولا أن كنا في الأرض ، وعرفنا ربنا فيها ، واستقمنا على أمره ، وفعلنا الصالحات لما كنا في الجنَّةالآن .
إذاً هنا الآية :
﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ ﴾
أولياء أموركم ..
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
فإذا جاءك من الله ما يعجبك فهذا من نِعَمِ الله عليك ، وإذا جاءك من الله ما لا يعجبك فهذا من تربيته لتكون في الجنَّة ؛ أعطاك مالاً للدنيا ، أعطاك بيتاً للدنيا ، أما إن سلب منك شيئا وأنت غافل ، فهذا الذي سلبه منك من أجل أن تصحو ، من أجل أن تلتفت إلى آخرتك ، وأن تفعل الخيرات ، إذاً عندما تجمع الدنيا مع الآخرة تحل مشكلاتك ، أما الدنيا فقط ففيها متاعب لا تعد ولا تحصى ، يقول لك : لا أحد مرتاح ، سبحان الله ! طبعاً لا أحد مرتاح ، لأنه لا أحد مستقيم ، أما لو أنك استقمت على أمر الله فالله عزَّ وجل يقول :
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
(سورة النساء : من الآية 147)
أما في الآخرة ، فهذه الآخرة التي خلقنا لها ..
((إن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب أحد )) .
)( البخاري
طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على الكَدْحِ والمشقةِ :
طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على الكَدْحِ ..
﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6) ﴾
(سورة الانشقاق)
طبيعة الحياة الدنيا قائمةٌ على تكبُّد المشاق ..
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4) ﴾
(سورة البلد)
يقول لك : ما وصلت إلى هنا حتى كابدت المشقات ، واشتريت بيتا مسحته ستون مترًا في آخر ما عمَّر الله ، يقول لك : مُت مليون موتة ، هكذا الدنيا ، حتى طلع على الأرض نصف متر يقول لك : هلكني السكن بزقاق الجن ، الحياة مبنيَّة على الكدح وعلى التكبُّد ..
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4) ﴾
أما الجنَّة فهي مبنيَّة على الطلب ، اطلب تعط ، انظر إلى الآية :
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
ولمجرَّد أن تطلب شيئاً فهو أمامك ، إلى أبد الآبدين ، لا تقدم بالسن ، ولا أسيد أوريك ، ولا كوليسترول ، ولا دسَّام معطَّل ، ولا ذرع كلية ، ولا ابن عاق ، ولا زوجة ناشذة ، ولا بيت صغير ، لا يوجد شيء من هذا ..
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾
فهكذا الآخرة ، إذْ نحن مخلوقون لهذه الحياة ، فهنيئاً لمن سعى من أجلها ، والشقاء لمن رضي بالدنيا ، من أراد الدنيا فقط فقد غامر وقامر ، قامر بسعادته الأخرويَّة ..
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
أي أخطاؤك غفرها لك ، ثم رحمك بهذه الجنَّة ، هذا كلُّه :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ{30} نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ{31} نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾
هذا المقام الأول ، والمقام الأعلى :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ
بعدما صوَّر الله عزَّ وجل لنا طريق كمال الإنسان ، الآن المرحلة الثانية طريق تكميل الآخرين ، طبعاً هذه صنعة الأنبياء وهذه بالدرس القادم إن شاء الله ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
خاتمة :
لكن ضعوا في أذهانكم أن علامة صدق إيمانكم الاستقامة على أمر الله ، وأن علامة صدق الدعوة إلى الله العمل الصالح ، ربنا عزَّ وجل قَرَنَ الإيمان بالاستقامة ، والدعوة إلى الله بالعمل الصالح ، فإن لم يكن مع الإيمان استقامةٌ فلا قيمة لهذا الإيمان ، وإن لم تكن مع الدعوة إلى الله عملٌ صالحٌ فلا قيمة لهذه الدعوة .
والحمد لله رب العالمين